MENU





 

.

.

جولة مع الذكريات – هــاني الحاج طاس تشوجون
بقلم الدكتور نجدت حاتام مشفش
ترجمة سينار ديشك,

.

 

 في صباح يوم الاحد كنت متواجدا في أسطنبول, وتذكرة العودة الى الاديغية

كانت بتاريخ 23-3-2012. كنت قدد خططت ان انهي عملي في اسطنبول باكرا وأن

أقضي يومين في أنقرة. وعلى الرغم من انتهاء عملي باكرا, الا أنني قررت

العودة الى مايكوب والغاء زيارتي الى انقرة. فبصفتي عضوا في اللجنة

المقامة من قبل حكومة الاديغية والمعنية بموضوع عودة الشراكسة من سوريا,

كان يتوجب على حضور أجتماع تقرر أنعقاده من قبل اللجنة في يوم الجمعة. لم

يزعجني كثيرا عدم التمكن من رؤية اصدقائي واحبائي وابنتي في أنقرة بقدر

ما أزعجني أن لا التقى صديقي "اوزدامير أوزباي" وان أجلس معه. لم يكن

سهلا علي ان لا أشاهده واعزيه بوفاة أخته "أونار", وان لا أتكلم معه عن

معرض الصناعة اليدوية المقام في مايكوب والذي نتشارك الاهتمام به, هذا

بالاضافة الى توقي للحديث معه في كل ما هو قديم وجديد. لا شك ان صحبة

أربعين عاما على نفس الدرب ستمكننا من أيجاد الكثير للتحدث فيه, وحتى ولو

جلسنا ولازمنا الصمت واخذتنا أفكارنا فلا شك اننا سنتخيل ذات الاشياء في

تلك السنين الطويلة التي جمعتنا واحلامنا المشتركة والاصدقاء الذين

فقدناهم في أوج عطائهم, وليس فقط أخته المرحومة "اونار" أو المرحوم "

سليمان يان شاتارول" الذين نتشارك حزن فقدانهم. اذكر عندما لازمها المرض

الفراش كنت قد نويت السفر الى أنقرة, امعقول ان لا أذهب. كانت قدماي

تحثني على الذهاب ولكن قلبي لم يقوى عليه, وعندما هدئ القلب لم تقوى

قدماي على الذهاب. أونار في ذاكرتي ومخيلتي لا تزال هي تلك التي التقيتها

في أحدى المرات في مايكوب وكانت تشع املا وطموحا بالرغم من معرفتها

بمرضها العضال والتي طلبت مني أخفائه, فكان موتها الما متجددا في قلبي.

بعد سنين طويلة من الانقطاع التقيت صديقي "عوني تشجن" في أحدى الجلسات

على الانترنت. صحبة الشباب التي جمعتنا والتي حملنا فيها قلوبنا على

أكفنا نقدمها لبعضنا البعض. فقدنا أشخاص كثر, واصبحت اعدادنا في تناقص مع

الزمن وتفرقنا المسافات. ولكن بفضل التكنلوجيا وجدنا بعضنا البعض مرة

أخرى ونتواصل ونتحدث عن مشاكلنا وما يؤرقنا. وخلال فترة تواجدي الاخيرة

في تركيا, وصلني الخبر المؤلم بفقدان عوني لاخيه " هاني" بتاريخ

7-3-2012. ولدى عودتي الى مايكوب اتصلت بعوني على السكايب وما ان رأيته

أحسست بحزنه, فكيف لا وقد فقد اخاه.

 

"هاني" لم يكن اول شراكسة الشتات الذين ذهبوا الى القفقاس, ولكنه من

اوائل من ذهبوا للدراسة فيه. عندما كنا نستعد للدراسة الجامعية في تركيا,

كان "هاني" في السنة التحضيرية يدرس اللغة الروسية في موسكو. انا, وكل من

يعرف "عوني" وعائلته في الاردن, نعلم مدى تعلق "هاني" بالوطن الام. وليس

من يعرفونه فقط, بل كل شركسي قرأ مقابلته في مجلة "اليامتشة" يعرف ذلك.

اما الشباب المؤمن بالعودة, فأدعوهم ان يقرأوا الصفحة الاولى من مجلة

"اليامتشة" والتي فيها مقابلة "هاني". وارجوه من الشباب ان يقرأوا ايضا

المواضيع القديمة وخاصة تلك التي واكبت فترة العراك مع اليسار. فليقرأوا

ماذا كانت توقعات المنادين بالعودة واهدافهم المستقبلية وكيف ان الامور

التي كانوا يتكلمون بها أثبتت صحتها. اولئك اليساريين الذين نضبت مياه

مغاطسهم التي كانوا يسبحون فيها ويحاولون الان البحث عن مغاطس جديدة.

اقول لهم أن لا ينسوا اننا ندرك ذلك, واطلب منهم ان لا يروجوا لنا

أفكارا نحن ادرى من أين أتوا بها. العودة تتغذى على حب الناس وحب الوطن.

يتذوقوها ويعيشوها, وتحولهم الى تراب في أرض وطنهم يمثل السعادة الحقيقية

للعائدين. بعضهم يقول " العودة ليست ناجحة"... واخرون يقولون " أن جميع

الشعوب في تركيا يجمعها وحدة المصير, حتى الاز والجورجيين" ... وهنالك من

يعلق " ان الذين رجعوا الى القفقاس ليس هم يد البلطة, اي العاجزين وغير

الفاعلين, وان الذين بأمكانهم أن يكونوا يدا للبلطة هم أولئك الذين بقوا

في المهجر, وهذا ما يفسر سبب التاخير والتقاعص في موضوع العودة" ....

ولؤلئك اصحاب المقولات القديمة أعلمهم ان خطابهم لم يعد مقبولا, واما

الاخرين الذين يسعون الى جمع الشراكسة في تركيا وليست لديهم ادنى فكرة

عما يحصل خارج تركيا, فاقول لهم, ان شعبنا لم يعد مغيبا عن الاحداث التي

تجري خارج تركيا.

 

لنك مجلة اليامتشة – عدد 7-16 ... مقابلة عن الوطن الام قفقاسيا

عندما تقرا مقابلة "هاني" كاملة ستجد أن العنوان معبرا تماما عن الموضوع.

وبمعنى أخر فهي عبارة عن باقة من المعلومات التي اوردها هاني في العام

1976. والذي كانت له الرغبة والفضول في الحصول على تلك المعلومات من

"هاني", هو صاحب مجلة اليامتشة ومدير تحريرها " فخري خواج " والذي يعرف

فيها على "هاني" كالتالي:

 

يامتشة : " في عام 1976 حضر لطرفنا ضيف أسمه " هاني" , وهو من قبيلة

الابزاخ ومن عائلة " يخوث – تشجن". واليكم نبذة عن تاريخ حياته .... هاني

من مواليد الاردن- وادي السير للعام 1943. والده السيد "مولود" يعمل

مدرسا للمراحل الابتدائية والاعدادية في مناطق متفرقة في الاردن. في

العام 1963 أنهى "هاني" دراسته الثانوية وعمل في وزارة الزراعة. وكغيره

من شراكسة المهجر كان الوطن الام متواجدا في قلبه وبه شئ من الحسرة على

فراقه. لكن ظروف الحياة في القفقاس وعزلته لم تكن تجعله يشع في قلوب

شراكسة المهجر. كانت المعلومات المتوفرة عن القفقاس ضئيلة والحسرة على

الفراق تزداد مع الزمن. كان التكلم عن القفقاس يصطدم بجدار الخوف الذي

يحيطه. خلال عمله في وزارة الزراعة, تسنت "لهاني" فرحة العمل في الجمعيات

الشركسية. وكما هو الاهتمام الحالي في تركيا بشؤون القفقاس, فقد كان ذلك

الاهتمام لدى هاني في تلك المرحلة. أن تسمع شيئا عن القفقاس سواء من اهله

او خارجه كانت بهجة لسامعها. ففي تلك الفترة كان الذين بمقدروهم زيارة

القفقاس يعدون على اصابع اليد. لدى أفتتاح السفارة الروسية في الاردن,

توطدت العلاقات بين البلدين. في العام 1966, تم التوقيع على اتفاقية بين

الجمعية الشركسية في الاردن وبين جامعة نالتشك في جمهورية قبردينا

بلقاريا تقر بموجبها ارسال طلاب شراكسة في بعثات جامعية الى مدينة

نالتشك. بموجب هذه الاتفاقية تمكن "هاني" بالاضافة الى ثلاثة أخرين من

شراكسة الاردن الذهاب للدراسة الى قفقاسيا في العام 1968. كانت السنة

التحضيرية للغة الروسية في موسكو ولمدة سنة,ولدى إنهائها, ذهب هاني لدى

الى نالتشك لدراسة الهندسة المدينة ولمدة 6 سنوات. في العام 1975 أنهى

"هاني" دراسته الجامعية وعاد الى الاردن. ويذكر "هاني" أنه سوف يعود الى

القفقاس بعد عمله في الاردن لبضع سنوات . وفيما يلي نص مقابلتنا مع

"هاني" ونرجو أن تكون المعلومات التي أوردها مفيدة وممتعة للقارئين, فهو

سيفيدنا بمعلومات عن الوطن الام أكثر وضوحا وأكثر دقة.

 

"هاني" عاش سعيدا بأنه حقق حلمه. عاد الى الوطن الام حتى وفاته, وواظب

منذ صغره وحتى اخر يوم في حياته مكرسا جهده لحركة العودة. وعندما فارقنا

"هاني" كان ممثلا للأردن في الجمعية العالمية الشركسية (ICA) في لجنة

العلاقات الخارجية.

 

لا شك ان الغالبية تعلم أن الجمعية الخيرية الشركسية قد تاسست في الاردن

في العام 1932 . كان مجالها خارج العمل السياسي, فقد كان الهدف الاساس من

أنشائها هو العمل الخيري في مساعدة المحتاجين. وبالرغم من ذلك, فقد لعبت

الجمعية الشركسية في الاردن منذ تأسيسها دورا سياسيا من خلال تمثيلها

للاقلية الشركسية في الاردن. ولكن لو أستثنينا الفترة الذهبية من تاسيس

الجمعية الشركسية في تركيا في العام 1908, والتي تعتبر الفترة الذهبية,

فالانطلاقة الاهم في التاريخ القومي الشركسي كان قدوم كوبا شعبان الى

المهجر بعد مغادرته القفقاس في العام 1943. بالرغم من الخلاف في الراي

حول دوافعه الحقيقية في مغادرة القفقاس, الى ان الكل يتفق أن كل يوم قضاه

خارج القفقاس كانت اللغة, الشعر, الادب, والتاريخ الشركسي حاضرة في باله.

حتى أبنته الوحيدة التي تركها خلفة في القفقاس, وكما ذكر البعض, كان

يتناجى معها باحلامه. كوبا شعبان يعتبر اهم جامع معلومات عن الشراكسة,

بالاضافة الى كتابته وأخراجه للمسرحيات. من المؤسف أن موته في أمريكا

يطابق شعر الشاعر التركي الشعبي الكبير "يونس أمرة" القائل : " قالوا أحد

الغرباء توفي ... بعد ثلاثة أيام وصلهم خبر موته, فبعجلة وماء باردة

غسلوه" ... وهكذا توفي نابغتنا كالغريب تماما كما جاء في أسطر شعر "يونس

أمرة". بعد تركه للوطن الام, تنقل كوبا شعبان في أوروبا بين همبورغ

وباريس. وشائت الصدفة السعيدة أن يلتقي أثنين من كبار الشأن في باريس,

احدهم يتغلبه الخوف على ضياع لغته الام ويعمل مع البروفيسور "ديميزيل"

واسمه " توفيق أسانج" والاخر أحد الجامعين الكبار "كوبا شعبان". لا ندري

للأسف كيف كانت لقائاتهم, وكيف كان غضبهم وحسرتهم على الامور التي

فقدناها. كيف نظروا بامل الى الى المستقبل بالرغم من السلبيات الكثيرة.

وللأسف فاننا هنا أيضا نعرف كم فقدنا, وكم نفتقد الى الاشياء التي لا

نعرفها ولم نستفيد منها أو من تلك الامور التي نعرفها ولم نستفيد منها.

 

ومن لقاء هذين الشخصين لم يتبقى الا صورة وحيدة أهداها كوبا شعبان لسانج

وعليها أسمه. وقد أحضر تلك الصورة " مراد تشاباي" في الاسبوع الشركسي

الذي اقيم في أنقرة في العام 1989 وكان لي شرف تسليمها الى ابنته الوحيدة

" سيدة".

 

في العام 1948 ذهب كوبا شعبان الى تركيا, وفي منتصف الخمسينات غادرها الى

سوريا ومنها الى الاردن بعد فترة أقامة بسيطة فيها. ذهابه الى الاردن

كان بدعوة من الحركة الشبابية المؤسسة لنادي الجيل الجديد. فقدم اليهم

بمكتبته الثقافية ليستقر في الاردن. ويتبين لنا من قراره لتلبية الدعوة

مدى توقه الى التواجد في وسط الحركات الشبابية, والذي لم يتسنى وجوده

سواء في تركيا او سوريا. وعندما أحس أنه اعطى كل ما يمكن أعطائه للشباب,

غادر الاردن الى أمريكا في العام 1956. والى اخر رمق في حياته كان يعمل

مع اصدقائه في العمل الشركسي. ولكن للأسف, فان الحركة الشبابية في نادي

الجيل تم تقويضها بسبب الخوف من المد الشيوعي في الاردن بالرغم من أنه

لم يكن للشباب في النادي أي نشاط سياسي في هذا المجال. ولكن كما هو

معلوم, فان الحركات القومية لا يمكن ان تبقى خاضعة للضغط, وعليه تفتحت

براعم حركة قومية جديدة في بداية الستينات نتيجة الضغط على نادي الجيل,

وعليه تم تاسيس حركة الرابطة الشركسية في العام 1964. وقبل تاسيسها

الرسمي, ذهبت المجموعة في زيارة الى القفقاس في العام 1963 وقابلت

مسؤولين في جمهورية القبردي بالاضافة الى مسؤولين في جامعة نالتشك. هذا

بالاضافة الى وصول نشاطهم الثقافي وخاصة الاغاني القومية التي كانوا قد

الفوها ولحنوها الى الريحانية في تركيا, ومن ضمنها نشيدهم القومي.

لنك نشيد الرابطة الشركسية

 

نشيد الرابطة القومي يلخص مبادئهم وهي, الالتزام بالشركسية, الوحدة, عزة

النفس, الالمام بالتاريخ, والعمل من اجل القومية, واهم من هذا كله, أن

يكون الوطن الام حاضرا في روح الشراكسة. نداء مؤثر وعميق ويدعو الى تطبيق

كل هذه الامور. ولا بد من الذكر هنا ان " عوني" – شقيق الراحل "هاني" –

كان كشافا في حركة الرابطة الشركسية والتي كانت تنشد هذا النشيد في

فعالياتهم المختلفة, وكانوا يرتدون زي الكشافة ويضعون القلبق الشركسي. من

المؤسف ان هذه المؤسسة لم تستمر, ففي العام 1968 تم حلها ودمجها بالجمعية

الشركسية. ولكن الجمعية الشركسية لم تعد صامته بعد ذلك, فقد تبنت مشروع

الرابطة في أرسال الطلاب الى القفقاس. فكما شاهدنا, فقد كان من حظ "هاني"

بأنه ومنذ فترة شبابه الاولى تواجد في وسط قومي, فقد كان من اوائل من

أسسوا حركة الرابطة بالاضافة الى كونه عضوا في هيئتها الادراية. وفي

المقابلة التي تكلمنا عنها سابقا في مجلة " اليامتشة" يصف هاني رحلته الى

القفقاس كالتالي:

 

هاني : " في تلك الفترة كان لدى حب أستطلاع وفضول لمعرفة الامور في

القفقاس, وبشكل خاص أبتدا ذلك في نهايات الفترة الاعدادية وبدايات الفترة

الثانوية. ولكن في تلك الفترة كان من الصعب الحديث عن الاتحاد السوفييتي

أو القفقاس فقد كان الموضوع محاطا بنوع من الخوف والرهبة. وبالتالي فقد

كانت معلوماتنا عن القفقاس سطحية وضئيلة. ولكن في فترة ابتداء الرابطة,

ابتدا التكلم في موضوع القفقاس ومناقشته. وجدنا ان الاتصال بالسفارة

الروسية قد يفيد في هذا الموضوع, وعليه ذهبنا في زيارة للسفارة الروسية

وقمنا بالتعرف على افرادها. واستطعنا ايضا, ومن خلال زيارة لاحقة الى

جمهورية القباردي, من أيصال أفكارنا, عواطفنا, ووضعنا في الاردن الى

جمهورية القبردي. ولاحقا أتانا خبر استعداد جمهورية القبردي على أستقبال

خمسة من الطلبة الشراكسة, لكل من سوريا, الاردن, وتركيا للدراسة

الجامعية في نالتشك. كان لا زال الخوف موجودا في تاك الفترة, ولكن رغبتنا

وعواطفنا جعلتنا نتخطى ذلك الخوف وان نعمل على الذهاب للدراسة. كان وضعي

مناسب للذهاب, ولم يكن هنالك تنافسا كبيرا, فلم تكن هنالك رغبة لدى

الاكثرية في الذهاب".

 

في اعتقادي, ان العامل الاهم تثبيت قرارهاني للدراسة في قفقاسيا, هو حظه

السعيد بوالده المدرس ذو النظرة البعيد, السيد "مولود" بالاضافة الى

والدته المليئة بالحب, والذين أعرفهم شخصيا واترحم عليهم. في تلك الفترة

كان من الصعب على شراكسة الشتات أن يرسلوا اولادهم للدراسة في الاتحاد

السوفييتي, فكانهم يرمون باولادهم الى النار. وقد حاول غالبية الاقرباء

والاصدقاء ثني الاستاذ مولود عن ارسال ولده " هاني" للدراسة في القفقاس,

ولكن القرار كان قد حسم قطعيا من قبله. وما يذكره شقيق عوني – شقيق هاني

- ان والده رفض طلب شقيقه الاكبر بثنيه عن قراره وهو الذي لم يرفض له

طلبا مرة في حياته. فهذا الحدث كان أكبر من العلاقات العائلية والعادات

الشركسية, فهو قضية قومية ونظرة للمستقبل. بتفكيره واصراره هذا لا شك أنه

كانت تخالجه نظرة للعودة, وان تلك هي الخطوة الاولى لتحقيقها. وكما ذكر

"هاني" في مقابلته ان جمهورية القبردي أبدت أستعداداها لاستقبال خمسة

طلاب عن كل من سوريا, الاردن, وتركيا, ولكن شجاعة الاردن والاستاذ مولود

التي ابداها في العام 1968, أستغرقت (21) سنة لاستداركها من قبل شراكسة

تركيا. مجموعة العودة في تركيا ارسلت طلابا ولاول مرة في العام 1989

(تماريس أوزبك يدج, تشاتيم سونجر سوقار, اولجون تشاتين كايا نابسو). كل

من تشاتين واولجن لم يكونوا من دائرة المنادين بالعودة. تشاتيم كان من

منطقة "اوزن يايلا" والتي تعتبر منطقة ضمن نطاق عملنا ومن المناطق التي

أستطعنا الوصول اليها وتعريفها بأهدافنا, ولكن ما فاجانا هو اولجون,

والذي كان من بلدة "سيماف – كوتاهيا" البعيدة عن مرمانا والتي كنا نجهل

بوجود شراكسة فيها. اما "تماريس" فهي ابنتنا, فهي أبنه جميع المطالبين

بالعودة. هي ابنه احد كبارنا ( تحماداتنا) نهائي يدج, والذي سمى ابنته

"تماريس" والتي تعني " المحمولة على الاكتاف" والتي كانت دوما محمولة على

اكتافه. لعل أيضا من حسن حظ "نهائي يدج" ان زوجته "شكران شكا" لم تكن أقل

منه حماسا للعودة للوطن الام, ففي تلك الفترة التي كان الناس فيها في

تركيا يخافون الذهاب الى روسيا حتى كسائحين, كان لدى والدي "تماريس"

الشجاعة لارسال ابنتهم للدراسة في القفقاس. ولا بد لي من التعليق هنا أنه

في العام 1979 قام حوالي 100 شخص (35 عائلة شركسية) من تركيا بتقديم طلب

للسفارة الروسية في أنقرة للعودة الى القفقاس, ولكن للأسف فقد تم تقويض

هذا الطلب أثر الانقلاب العسكري في تركيا في العام 1980. ولو لم يحدث ذلك

لكانت "تماريس" هاجرت الى القفقاس وهي لا زالت طفلة. واذا تسالتم عن

عائلة "تماريس" فهم مقيمون في نالتشك حاليا ومحبوبون ومعززون من أهلها

والذين يعتبرونهم كعينة لنجاح العودة. ويشاركون مع أهلهم في القفقاس كافة

مناسباتهم الوطنية كعائلة بكافة افرادها بالاضافة الى احفادهم الذين

أضافوا الى عدد عائلتهم التي نتمنى لها السعادة. " تماريس", جميلة

الدنيا, ام شابة وسيدة عمل ناجحة. تشاتين واولجون أيضا لم يخيبوا أمالنا

نحن المنادين بالعودة, فقد انهوا دراستهم الجامعية وكلاهما يعملان كخبراء

في موسكو.

 

أنظروا كيف دارت الايام واخذتنا الذكريات وكيف أن ذهاب "هاني" الى الوطن

الام للدراسة ومن ثم عودته اليها للاقامة كان نتاج الحركة القومية في

بداية الستينات والتي أيضا أنتجت برعما انتقل الى تركيا وكافة انحاء

العالم الشركسي في المهجر. نعم فقد كانت تلك هي شعلة العودة. تلك الشعلة

التي كانت دائما مضيئة ولو بشكل خافت. كانت تتاثر بالوضع السياسي فاحيانا

يغطيها الرماد واحيانا أخرى تتوهج نارها لتدفي من حولها. واول وهج لها

كان في العام 1908 لدى انشاء جمعية التعاون الشركسية, الا ان شعلتها ما

لبثت أن اطفئت وتحولت الى رماد, وبقيت على هذا الحال الى أن قدم "كوبا

شعبان" الى الاردن فاضائها من جديد وزاد وهجها مع ولادة الرابطة الشركسية

في الاردن.

كافة الحركات الشركسية ما قبل الجمهورية التركية كان مركزها أسطنبول,

وذلك بحكم الاعداد الكبيرة للشراكسة المقيمة فيها. ولكن بتأثير حركة

العودة القادمة من الاردن, انتقلت الحركة القومية الى أنقرة بفضل حركة

الشباب في " الالي دوكوز". فقد تاثرت حركة العودة بالشباب الاردني الحامل

لفكر العودة والقادم للدراسة في أنقرة في فترة الستينات, من أمثال "

سميح تحابسم" و"خير الدين قاسماغة". ففي العام 1961 ولدى افتتاح الجمعية

الشركسية في أنقرة, قام "عزت أيديمير", أضاء الله قبره, بأصدار أول عدد

من دوريته " مجلة الثقافة الشركسية" في ايار-حزيران 1964. وفي عام 1965,

وفي العدد السابع للدورية, كتب "عزت أيديمير" مقالا تحت عنوان " هل من

المحتمل" ذكر فيه العودة , واقتبس منه التالي:

 

عزت أيديمير : " في هذه اللحظة يستطيع القفقاسيين المهاجرين التواصل مع

أقربائهم داخل القفقاس واستطلاع اخبارهم, وبمقدورهم ارسال واحضار الاغراض

من والى القفقاس. وايضا حسب المعلومات المتوفرة, فقد بدا الاتحاد

السوفييتي بالسماح بنوع من الملكية الخاصة للقرويون. فحسب شروط خاصة

يستطيع القرويون بيع منتجاتهم. ولكن ما يهمنا في الامر, هو تاثير ذلك على

المهجر من خلال تخفيز الرغبة لديهم للعودة الى القفقاس. وما يدل على ذلك,

هو مشاهدتنا لنوع من الحراك والرغبة لدى شمال القفقاسيين في الاردن,

سوريا, واسرائيل للعودة الى القفقاس. فقد رجعت أعدادا منهم الى القفقاس

بشكل فردي من الاردن واسرائيل, وبشكل جماعي من سوريا"

وقد كان من أكثر المقربين الى "عزت أيديمير" هو "سميح تحابسم". لقد درس

في كلية العلوم السياسية في تركيا, ومن الذين خدموا قوميتهم الشركسية

بقدر ما اوتوا من قوة واستطاعة, وهو ايضا من العائدين الى القفقاس بتاريخ

9-10-1967. وقد كان هو من أستقبل "عوني" لدى حضوره للدراسة في تركيا في

العام 1966 وهو في سن السابعة عشر, محضرا معه (72) كتابا لتعليم اللغة

الشركسية, واستضافه "سميح" في سكن طلاب العلوم السياسية. ومن المؤكد ان

"عوني" كان قد طلب منه لقاء "سميح" في أنقرة, وعليه قام بأعطائة الكتب.

وفي تلك الليلة التي أقام فيها "عوني" في سكن طلاب العلوم السياسية,

أصطحبه "سميح" الى حفلة أقامتها الجمعية الشركسية في أحدى صالات الافراح

حيث قام "عوني" بالعزف الشركسي على الاكورديون ولاول مرة في تركيا. غادر

"عوني" الى أسطنبول في اليوم التالي بعد تسليمه الكتب الى "سميح". ولدى

وصوله الى اسطنبول, تعرف على كل من "رحمي تونة, "فكري دومان", فخري

خواج", و " اورهان كوبسرجالي" وقضي فترة طويلة معهم, ولفترة لاحقة كانوا

يلتقون في كل أسبوع في منزل " قاسم تايماز". بالرغم من حداثة سنه, الا أن

الامور التي كان يعرفها كانت غير معلومة في تركيا للذين أكبر منه سنا.

ومثال عليه اذكر أنه لدى ذكره أن بعضا من الشراكسة في الاردن رجعوا الى

القفقاس للاستقرار أو الدراسة في نالتشك, علق على حديثه "فكري دومان"

مستهزءا " لا شك أن أهل الاردن يجيدون أستخدام الفاس والمجرفة". وفكري

دومان من الذين ارسل اولاده لاحقا للدراسة في نالتشك, وحاليا اولاده

مستقرين في الوطن الام.

 

اول من تأثر بفكر العودة القادم من الاردن, هم سكان الريحانية في تركيا.

والسبب في ذلك قربهم من سوريا التي كانت تربطها علاقات ثقافية متبادلة مع

الاردن. فأذكر انه في سنوات الدراسة الثانوية في العام 1965-1966 كنا

نناقش مسألة العودة للقفقاس. لم تكن نقاشاتنا ممنهجة ولكن كانت فكرة

العودة على الاقل موضوع نقاش وحوار. ونجد ان الهيئة القفقاسية الممثلة

للجمعيات الشركسية (Kaf-Kor) والتي تم أنشائها في العام 1989, ضمت في

إدارتها (5) أعضاء ثلاثة منهم من الريحانية وهم : " سليمان يان

تشاتارول", " شامل جانة", بالاضافة لي انا " نجدت حطام". اما العضوين

الاخرين فهم : " يوسف تايماز" من "دزجة", و"محمد يدج" من تيما- انطاليا.

وايضا تواجد في تركيا "نهاد بدانوقة" والذي قدم من سوريا في العام 1968,

وفرض أحترامه على الكل وحتى على من لم يحبه, وكان من الذين لهم الدور

الكبير في تشجيع فكر العودة. كان "نهاد" احد الفاعلين في جمعية أزمير

والتي قضى فيها فترة دراسته بعد أنتقاله اليها من أنقرة, وقد ودعناه بصمت

وحزن قبل انقلاب عام 1980 بلحظات وسفره الى الوطن الام.

وبأختصار, فقبل الاحتفالية بذكرى مرور (125) سنة على الهجرة الشركسية

والتي اقيمت في أنقرة في العام 1989, فقد كان "لهاني" الدور الاكبر في

دفع حركة العودة في تركيا من خلال تأثرها بفكر الرابطة الشركسية في

الاردن. وفي مقابلة "اليامتشة" السابق ذكرها وفي القسم الاخير منها أذكر

الجزء التالي:

 

يامتشة: " أخيرا لي رجاء. العادة لدى الشراكسة أن الضيف يرفع خواخ (دعاء)

على الطاولة يعبر فيها عن رغبته وتمنياته. في العادة يكون هذا في اول

الجلسة, ولكن لا مانع ان جعلنا ذلك في أخر الجلسة. من المؤكد بأنك سمعت

خواخات (أدعية) كثيرة لدى دراستك في القبردي, فدعنا ننهي جلستنا بكلمات

ترغب في ان تقولها لنا".

 

هاني: " انا ممتن لكم كثيرا بهذا اللقاء, وفي موضوع قومي مثل هذا ليس لي

أن أقول كلماتي ولكن ساحاول أن أقتبس من كلمات سمعتها من الذين في

القفقاس وسانقلها لكم. لقد سمعت كثيرا من الخواخات (الادعية) في القفقاس

وكل منها عبارة عن قطعة أدبية جميلة ذات معنى عميق. سيكون من الصعب علي

ذكر تلك الخواخات بحذافيرها , ولكني أذكر احد تلك الخواخات التي سمعتها

بالمعنى التالي, وقد يكون قريبا في المعنى وعلى علاقة وثيقة بالحوار الذي

بيننا, وساحاول ترديده: في احد الازمنه قامت احدى العائلات ببناء منزل

جميل بجانب النهر. كانوا مسرورين جدا بمنزلهم. وفي احد الايام فاض النهر

واصاب منزلهم الخراب وغمرت المياه أطرافه وأحيط المنزل بالطين والاحجار

والقاذورات. قررت غالبية أفراد العائلة الرحيل عن منزلهم الى منطقة بعيدة

للسكن فيها. وبقى في المنزل الوالد وزوجته المتقدمان في السن. وكان الذين

رحلوا بفكرون في ذلك العجوز وزوجته ويتسائلون ان كان بأستطاعتهم ترميم

المنزل. بعض الذين غادروا أدركوا خطا ما ارتكبوه بتركهم منزلهم فقرروا

العودة الى المنزل وتنظيفه وترميمه .... فمن ناحية معينة أرى أن وضع

الشراكسة في المهجر مطابق لهذه القصة, واملي أن يدرك الشراكسة الذين

أبتعدوا عن منزلهم أن عليهم العودة له لاعماره من جديد. بالطبع, هذا

الخواخ (الدعاء) مصاغ بلغة أدبية وشعرية أفضل من التي قلتها وبشكل اوسع

وادق. واذكر خواخ (دعاء) اخر, وايضا له علاقة بحوارنا هذا, وهو : عندما

يفيض النهر فانه يجرف التراب والحجارة معه, وعند انحسار الطوفان يصبح من

الصعب ارجاع الاتربة كونها اختلطت بالاتربة الاخرى, أما الحجارة, وحتى لو

تكسرت, فانها تحافظ على ذاتها وطبيعتها ويمكن أستعادتها. ومن اجل ذلك

أقول أن على الشراكسة الذين تركوا بلادهم ان لا يصبحوا كالتراب بل أن

يبقوا كالحجارة والصخر متراصة مع بعضها البعض محافظة على شكلها

ومضمونها".

 

في قفقاسيا أكثر الخواخات تاخذ الطابع الفومي. فعلى الرغم أن بعضها أيضا

يتحدث عن السلم والسعادة, الا ان أغلبها يتحدث في الموضوع الشركسي. وكافة

المقيمين في القفقاس يتحدثون بحرارة وشوق في موضوع الهجرة وضرورة العودة

الى الوطن الام. والخواخ الذي اريد ان اقوله عن نفسي, انه في احدى

الجلسات, والتي كانت تصادف نهاية الخريف وبداية الشتاء, كنت جالسا بالقرب

من النافذة. وكنت أشاهد شجرة سقطت ورقة عن احد اغصانها. لم تكن هنالك

ريحا قوية فسقطت الورقة بجانب الشجرة. قام احد المشاة بالدوس عليها

فاختلطت بالتربة المحيطة بالشجرة. لم تبتعد عن الشجرة فبقيت في محيطها

فتحللت واختلطت بالتربة واصبحت غذاءا للشجرة. فغذت الغصن التي سقطت منه

وغذت أغصانا جديدة فزادت من ثمار الشجرة واوراقها. وهكذا الحال, فتسقط

الاوراق في الخريف ستصبح غذاءا للشجرة فتنمي ساقها وجذورها. وهذا ما

ينطبق علينا نحن الشراكسة, فاتمنى أن يرجع الشراكسة الى وطنهم الام

فيغذوا ساقه وجذوره واوراقه.

 

يامتشة: الشركس في تركيا عبارة عن أوراق تساقطت بعيدا عن الشجرة, فلن

تفيد تلك الاوراق الشجرة التي سقطت عنها وستندثر بلا فائدة. ولكن كلنا

أملا ان يجد الشراكسة طريقة واسلوب لكي بحافظوا على انفسهم من الضياع.

وما نراه ان العودة الى الوطن هي الطريقة المثلى لعودتهم الى تاريخهم

وتراثهم. وهكذا سوف يغذون جذور وطنهم ويساهمون في بناءه. أنت أخي "هاني"

ومن خلال البضع سنين التي قضيتهم في الوطن الام وجهتنا الى الطريق التي

نحافظ فيها على مجتمعنا الشركسي من الضياع. وما ساهمت فيه من كلمات لا شك

أنه ستساعد في عدم اندثارهم. نشكرك لهذه المعلومات القيمة من صميم قلبنا

ونتمنى لك النجاح في حياتك".

 

هاني: اشكركم من عميق قلبي لانكم اتحتم لي المجال والفرصة لايصال مشاعري

وما لدي من معلومات لاخواني الشراكسة في تركيا. واتمنى لكم النجاح في كل

أعمالكم ونشاطاتكم من اجل المحافظة على المجتمع الشركسي والقضية الشركسية

من الضياع"

 

..... وهكذا تحولت رفات أخانا العزيز هاني كسائر الخلق الى تراب. ولكن كم

هو سعيد لان رفاته غذت شجرة الوطن لتنمو وتقوى. ولا شك أن كثير من الناس

في الغربة تتحسر على حالها. وكم هو حظ كبير ان تلتقي الموت, الذي لا مفر

منه, وانت في وطنك الام. وكم هي سعادتك ان تتحول رفاتك الى جزء من تراب

الوطن.

.

.